17 - 07 - 2024

الدم الرخيص! 

الدم الرخيص! 

أصبح عادياً جداً، مألوفاً لحدقاتنا المجهدة، في الصبح والمساء، وفي كل الأوقات، أن نشاهد الدمار والخراب والجثث المتناثرة في الأرجاء، في شوارع بغداد عاصمة الخلافة العباسية، في أفغانستان، في باكستان، في فلسطين، في اليمن، في سوريا، في سيناء.. دم ، دم ، دم.. جفت الدموع في الأحداق ولم تجف الدماء.

ما هذا الجنون ؟... اللامعقول صار أكثر من معقول، والعبثية صارت عنوان كل يوم، ومع ذلك، بل ورغماً عن ذلك، فلا زالت عواصم الورد والياسمين تدغدغ مشاعر البشر بأنغام حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، لا زالت تلك العواصم ترتدي زي الحمل وهي التي تخرج من أحشائها أفتك أسلحة الدمار، وترسم بطبشور الدم مصائر الشعوب المغلوبة علي أمرها، أو التي هان أمرها علي نفسها فهان علي غيرها!!.

لقاء الحضارات :

في إحدي تلك العواصم المتلألئة بأضواء الفكر الإنساني، والتي ترشرش علي العالم المجهد ذرات من دموع التماسيح، وقف الدبلوماسي الشرقي في أحد المنتديات كي يقول: "أن الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون هو إسم الرجل الذي كان يري الجانب الأخلاقي أساساً للسياسة الخارجية، في إطار مبادئ القانون الدولي، وأن رئيساً أمريكياً آخر هو كوينسي قال في بلاغة أن أمريكا لا تذهب إلي خارج حدودها بحثاً عن وحوش لتقتلها، وإنما هي الدولة التي ترسل أمنياتها الطيبة بعالم يسوده السلام والمحبة "... وكأن ذلك صوتاً تائهاً في البرية، أو أصداء لذكريات زمن البراءة والطهارة التي لم يعد يعرفها هذا الزمن المتوحش.

وقفت تلك الطفلة العشرينية الشقراء بعد انتهاء الندوة تتحاور مع ذلك الدبلوماسي الشرقي المخضرم، تسأله أن يحدثها عن المزيد من الحق والعدل والمساواة والحرية، تقول له بدهشة أنها لم تعد تسمع عن هذه المعاني، وأن ما تعلمته في جامعتها المشهورة يتعلق فقط بقواعد السياسة العملية أو Realpolitik، وتوازن القوي Balance of power، والكثير عن النصر التاريخي للغرب في الحرب الباردة، وعن صراع الحضاراتConflict of Civilization، سألته من أي مصدر يستقي ذلك اليقين العجيب في عالم أكثر حباً وعدلاً ومساواة، ذكرت له أنها لم تتعلم منذ طفولتها سوي أن "البقاء للأصلح"، وأن الضعيف لا يستحق الإحترام لأنه قبل علي نفسه هذه الصفة.

كان يسمعها بصبر مشوب بالألم، فهذا الكائن الرقيق البديع يحمل في أحشاء عقله بذورا وحشية، أن ملائكية المظهر تخفي شيطان الجوهر، ولكنه شعر بالرثاء لها، فهي نتاج حضارة مادية وعصر غير متسامح، هي بشكل ما ضحية أيضاً لمفاهيم غرست فيها دون إرادتها حتي أصبحت جزءاً من نسيجها الفكري، وبطبيعة الحال تحدث إليها كمسيح معذب مصلوب علي جدران أفكاره وأحلامه، حاول أن يخترق قشرتها الصلبة كي يصل إلي أعماق فطرتها البريئة، فسرد عليها بعض التاريخ وبعض أدبيات عصر الفرسان والأخلاق، شرح لها الفارق بين مثالية ودرو ويلسون وواقعية تيودر روزفلت، لم تكن مقتنعة تماماً، وكان ذلك مفهوماً لأنه من الصعب أن يهدم في دقائق قلاعاً من الصلب غرزت في أعماقها، واتفقا علي مواصلة الحديث عبر البريد الإليكتروني.. وسافر.

بريد إليكتروني :

في البداية فكر أن الأمر لن يزيد عن ذلك، وهو ما تكرر كثيراً خلال رحلته الدبلوماسية عبر أقطار الارض الأربعة، ولكنه تذكر ذلك الهولندي الذي قابله في أمريكا اللاتينية، وكان أكثر تشدداً وتعصباً وإحتقاراً لكل ما هو غير غربي، لقد تغير ذلك الرجل عبر حوارات ممتدة، بل أصبح متحمساً لقضايا الإنسان المغلوب علي أمره وخاصة في فلسطين.. بضع سطور في البريد الإليكتروني لن تستغرق وقتاً طويلاً علي أية حال.. كتب لها وأرفق بعض صور الدم في غزة .. وجاءه الرد فوراً محتشداً بأسئلة أكثر .. أجاب وأرفق مزيداً من صور الدم.. وفوجئ بها ترسل إليه غاضبة أن يكف عن تلك الصور التي أصبحت كوابيساً تؤرقها وتجرح مشاعرها المرهفة.. فأرسل لها بضع سطور يشرح لها فيها أن تلك الكوابيس هي حقيقة كل يوم في عالمنا، وأنها لم تعد تؤذي شعور أحد، فالناس تشاهد كل هذه البشاعة علي شاشات التليفزيون أثناء تناول طعام العشاء دون أن تفقدهم الشهية أو يتقيأون.. صارت أمراً عادياً.

أرسلت له سطرين أخيراً تعلن فيهما تقززها من ذلك "الدم الرخيص" Cheap blood، وتسأل كيف يرضي الناس بذلك؟.

لقد قالت أنه دم رخيص، إلا أن تكلفته الحقيقية باهظة تصل إلي مليارات يحصلها صناع السلاح والدمار، بل أن التكلفة تزيد علي ذلك فهي تعبر عن كرامة بشرية لا تقدر بثمن يتم إهدارها، وعن ضمير إنساني يفقد حسه ويتبلد، وعن شعوب تساق إلي مذابحها كما تساق المواشي.. لا ليس دماً رخيصاً، بل هو فكر رخيص، سياسة رخيصة، وقوة رخيصة.

قرر ألا يكتب لها مرة أخري.. فهي قالب تجمد ولا سبيل إلي إعادة تشكيله سوي بكسره، أن بحوراً من الدموع لن تغسل ذلك الضمير الذي دربوه علي التبلد، ولن تجدي آلاف السطور والمناشدات في تحريك القلب الجامد، فدم الضعفاء رخيص في نظرهم، ولن تزيد قيمته سوي بالمقاومة، فالحديد لا يفله سوي الحديد.. ولكن كيف ؟؟.

جهاد النفس :

المقاومة لا تعني بالضرورة إعلان الحرب علي العالم، ولا هي دعوة للإنتحار، المقاومة في أولي ترتيباتها تعني إدراك نقاط الضعف ومعالجتها، تحديد العدو بشكل واضح، فلن يكون من المفيد أن يضاف إلي القائمة كل يوم عدو جديد، بل يجب أن يكون الحرص علي إزاحة أكبر عدد ممكن من هذه القائمة، فالعدو هو الذي يهدد بالفعل وجودك وحريتك وهويتك، ليس هو العدو المتوهم، أو الذي لا يشتمل تهديده علي أمورك الجوهرية، ثم من المهم الوعي بالذات وبالمعطيات الواقعية لها، والمحاولة المستمرة لدعمها بما يخدم قضية المقاومة، فالجسد القوي هو المانع الأول لإختراق الجراثيم والميكروبات، وجهاز المناعة لأي أمة يتشكل من قوة الإستغناء من خلال الإعتماد الجدي علي النفس والثقة بها بغير إفراط أو تفريط، أن نوقظ في شبابنا الشعور الوطني من خلال منهج علمي (وليس عن طريق مباريات كرة القدم!!)، أن نزودهم بسلاح العلم الذي يكسبهم مزيداً من الثقة بالنفس، وليس بأسلحة التطرف العاطفية الخشبية التي لا تقتل نملة وتؤذي بأكثر ما تنفع، أن لا نتظالم فيما بيننا، والفساد أكبر مظاهر الظلم لأنه مثل السوس ينخر في جذع الأمة فيضعفها ويفتتها، وأن نكون أكثر صراحة مع النفس من خلال حوار الشركاء لا حوار الطرش.. باختصار علينا أن نبدأ بالجهاد الأكبر (جهاد النفس) قبل أن نشرع في الجهاد الأصغر (جهاد العدو) الذي ربما لا نحتاج إليه إذا انتصرنا في الأول ..

رغم كل شيء، قرر الدبلوماسي الشرقي المخضرم أن يرجع عن قراره ويواصل الكتابة للغربية الشقراء علي بريدها الإليكتروني، سيقول لها أن دمنا ليس رخيصاً، سيصر علي محاولة الوصول إلي أعماقها التي لا يشك في طهارتها كطهارة النفس البشرية بشكل عام، سيحاول أن يخلصها من قيود الفكر الوحشي التي كبلتها منذ طفولتها، ربما نجح في تحريرها من عبوديتها، والحق أنه لا توجد قضية خاسرة لحق عادل إلا إذا تهاون أصحاب القضية في متابعتها بكل ما يملكون من وسائل، وليس أمام المظلومين سوي الصبر والإصرار والمواصلة، ولن يضيع حق وراءه مطالب.

كتب للغربية الشقراء رسالة حب تستدعي ذكريات عناق الأندلس في لحظة الوهج الحضاري الإنساني المتألقة، قال لها أن دمي هو دمك، ولن أرضي لدمك أن يكون رخيصاً، فلا تقبلي أن يصبح دمي المسال خبراً من أخبار اليوم العادية.   

-----------

بقلم السفير/ معصوم مرزوق

* مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!